الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين، فإنه يخرج زكاتها، فإنها إن كانت ملكا لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له، ومالكها مجهول لا يعرف، فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرًا من ألا يتصدق بشيء منها. فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير. وإذا كان ينهب بعضهم بعضًا فإن كان النهب بين طائفتين معروفتين، فإنه ينظر قدر ما أخذته كل طائفة من الأخري، فإن كانوا سواء تقاضيا، وأقر كل قوم على ما بأيديهم، وإن لم يعرف عين المنهوب منه. كما لو تقاتلوا قتال جاهلية وقتل هؤلاء بعض هؤلاء، وهؤلاء بعض هؤلاء، وأتلف هؤلاء بعض أموال هؤلاء، فإن الواجب القصاص بين الطائفتين، فتقابل النفوس بالنفوس، والأموال بالأموال، فإن فضل لإحدي الطائفتين على الأخرى شيء طالبتها بذلك. /وعلى ذلك يدل قوله تعالى: وهذا لأن الطوائف الممتنعة التي يعين بعضها بعضًا في القتال، ثم يكون الضمان فيها على الذي يباشر القتال والأخذ والإتلاف، وعلى الردء الذي يعينه عند جمهور العلماء. ولهذا كان في مذهب الجمهور: أن قطاع الطريق يقتل منهم الـردء، والمباشـر. وعمـر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قتل ربيئة المحاربين، وهو الناظر الذي ينظر لهم الطريق. فالمتعاونون على الظلم والعدوان تجب عليهم العقوبة بالضمان وغيره؛ ولهذا قال عامة الفقهاء: إن الطائفتين المقتتلتين على عصبية ورياسة تضمن كل طائفة ما أتلفت للأخري؛ من /نفس ومال. فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يعرف عين المتلف. وإن كان قدر المنهوب مجهولًا لا يعرف ما نهب هؤلاء من هؤلاء، ولا قدر ما نهب هؤلاء من هؤلاء، فإنه يحمل الأمر على التساوي؛ كمن اختلط في ماله حلال وحرام، ولم يعرف أيهما أكثر، فإنه يخـرج نصـف مالـه، والنصـف الباقي له حـلال كما فعــل عمـر ابن الخطاب بالعمال على الأموال؛ فإنه شاطرهم. فأخذ نصف أموال عماله على الشام ومصر والعراق. فإنه رأي أنه اختلط بأموالهم شيء من أموال المسلمين، ولم يعرف لا أعيان المملوك، ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء، بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه، وأكثر، ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما في يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان، فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به، ويزكي ذلك المال كما يزكيه المالك. وإن عرف أن في ماله حلالًا مملوكًا، وحرامًا لا يعرف مالكه، وعرف قدره، فإنه يقسم المال على قدر الحلال والحرام، فيأخذ قدر الحلال، وأما الحرام فيتصدق به عن أصحابه، كما يفعل من عنده أموال مجهولة الملاك: من غصوب وعواري وودائع؛ فإن جمهور العلماء، كمالك، /وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: إنه يتصدق بها. وهذا هو المأثور في مثل ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن لم يعرف مقدار الحلال والحرام فإنه يجعل المال نصفين، يأخذ لنفسه نصفه، والنصف الثاني يوصله إلى أصحابه إن عرفهم، وإلا تصدق به. وما تصدق به فإنه يصرف في مصالح المسلمين؛ فيعطي منه من يستحق الزكاة، ويقري منه الضيف، ويعان فيه الحاج، وينفق في الجهاد، وفي أبواب البر التي يحبها الله ورسوله، كما يفعل بسائر الأموال المجهولة، وهكذا يفعل من تاب من الحرام وبيده الحرام لا يعرف مالكه.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، إن كان جميع ما بيده أخذه من /الناس بغير حق. مثل أن يأخذ من اللصوص، وقطاع الطريق بعض ما يأخذونه من أموال الناس، ومثل أن يطلب ظلم أقوام فيعطوه ما ينكف به عن ظلمهم، ومثل أن يحمي بعض الناس عن مساواة نظرائهم فيما يطلب منهم ليعطوه رشوة، ومثل أن يظلم في حكمه، أو يعدل برشوة يأخذها، ومثل أن يغصب مال قوم بافتراء عليهم، ومثل أن يهدر دماء المقتولين برشوة من القاتلين. فهذه الأموال ونحوها هي مستحقة لأصحابها كاللص الذي يسرق أموالًا، ويخلط بعضها ببعض، فإن ذلك لا يحرمها على أصحابها، بل يقتسمون الأموال بينهم على قدر حقوقهم، وإن جهل عين مال الرجل لكونه باعه، ونحو ذلك فعوضه يقوم مقامه. ومن اكتسب بهذه الأموال بتجارة ونحوها فقيل: الربح لأرباب الأموال. وقيل له: إذا اشتري في ذمته. وقيل: بل يتصدقان به؛ لأنه ربح خبيث. وقيل: بل يقسم الربح بينه وبين أرباب الأموال كالمضاربة. كما فعل عمر بن الخطاب في المال الذي أقرضه أبو موسي الأشعري لابنيه دون العسكر. وهذا أعدل الأقوال. وإذا كان كذلك، فأهل الأموال يقتسمون ما وجدوه على قدر حقوقهم؛ فإن ذلك إما عين أموالهم، وإما وفاء ديونهم الثابتة في ذمته، بل الحق أن حقوقهم متعلقة بالأمرين جميعًا بذمته، وبالأموال. فأما إذا لم يعرف مقدار ما غصبه، ولا أعيان الغرماء كلهم، فمن أخذ منهم من هذه /الأموال قدر حقه، لم يحكم بأن ذلك حرام، لاسيما إذا كان قد اتجر في الأموال التي بيده، فإنه يستحق حينئذ أكثر من قدر حقه، لكن يخاف أن تكون الأموال التي بيده تضيق عن حقوق جميع المستحقين، لكن المجهول منهم الذي لا يعلم صار كالمعدوم، فإن كان الذي يأخذ قدر حقه له، ولم يظلم سائر الغرماء المعروفين، لم نحكم بتحريم ما أخذه، لكن إن ظهر فيما بعد غرماء، ولهم قسط من ماله كان لهم المطالبة بقدر حقوقهم، فمن استولي على المال يؤخذ من كل واحد بقدر ما استولي. والله أعلم.
سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال، ثم ردت عليهم أو بعضها، وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض؟ فأجبتهم: إنه إن عرف قدر المال تحقيقًا قسم الموجود بينهم على قدره، وإن لم يعرف إلا عدده قسم على العدد؛ لأن المالين إذا اختلطا قسما بينهما، وإن كان يدفع لكل منهم عن ماله ما كان للآخر؛ لأن الاختلاط جعلهم شركاء، لاسيما على أصلنا أن الشركة تصح بالعقد، مع امتياز المالين، لكن الاشتباه في الغنم ونحوها يقوم مقام الاختلاط في المائعات. /وعلى هذا فينبغي أنه إذا اشتركا فيما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح، كما لو كان رأس المال دراهم، إذا صححناها بالعروض، وإذا كانوا شركاء بالاختلاط والاشتباه فعند القسمة يقسم على قدر المالين، فإن كان المردود جميع ما لهم فظاهر، وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك، كما لو رد بعض الدراهم المختلطة. يبقي إن كان حيوانًا، فهل يجب قسمته أعيانًا عند طلب بعضهم قولًا واحدًا، أو يخرج على القولين في الحيوان المشترك؟ فالأشبه خروجه على الخلاف؛ لأنه إذا كان لأحدهما عشرة رؤوس، وللآخر عشرون، فما وجد فلأحدهما ثلثله، وللآخر ثلثلاه كذلك،، لكن المحذور في هذه المسألة أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر، وإن لم يعرف إلا عدده ـ مع أن غنم أحدهما قد تكون خيرًا من غنم الآخر ـ فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على الآخر التسوية؛ لأن الضرورة تلجئ إلى التسوية. وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمدًا أو خطأ، يقسم المالان على العدد إن لم يعرف الرجحان. وإن عرف وجهل قدره أثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه؛ لأن الأصل عدمه. / فأجاب: وأما القصاص في إتلاف الأموال مثل أن يخرق ثوبه، فيخرق ثوبه المماثل له، أو يهدم داره فيهدم داره، ونحو ذلك. فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ذلك غير مشروع؛ لأنه إفساد، ولأن العقار والثياب غير مماثلة. والثاني: أن ذلك مشروع؛ لأن الأنفس والأطراف أعظم قدرًا من الأموال، وإذا جاز إتلافها على سبيل القصاص؛ لأجل استيفاء المظلوم، فالأموال أولي. ولهذا يجوز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب، إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر المثمر. وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة، فهذا فيه نزاع؛ فإنه إذا أتلف له ثيابًا أو حيوانًا أو عقارًا ونحو ذلك: فهل يضمنه بالقيمة؟ أو يضمنه بجنسه مع القيمة؟ على قولين معروفين للعلماء. وهما قولان في/ مذهب الشافعي،وأحمد. فإن الشافعي قد نص على أنه إذا هدم داره بناها كما كانت، فضمنه بالمثل. وقد روي عنه في الحيوان نحو ذلك، وكذلك أحمد يضمن أولاد المغرور بجنسهم في المشهور عنه، وإذا اقترض حيوانًا رد مثله في المنصوص عنه. وقصة داود وسليمان هي من هذا الباب؛فإن داود ـ عليه السلام ـ قد ضمن أهل الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم بالقيمة،وأعطاهم الماشية مكان القيمة. وسليمان ـ عليه السلام ـ أمرهم أن يعمروا الحرث حتي يعود كما كان، وينتفعوا بالماشية بدل ما فاتهم من منفعة الحرث. وبهذا أفتي الزهري لعمـر بـن عبـد العزيـز لما كان قـد اعتـدي بعض بني أمية على بستان له فقلعوه، وسألوه ما يجب في ذلك؟ فقال: يغرسه كما كان. فقيل له: إن ربيعة وأبا الزناد قالا: تجب القيمة، فتكلم الزهري فيهما بكلام مضمونه: أنهما خالفا السنة. ولا ريب أن ضمان المال بجنسه مع اعتبار القيمة أقرب إلى العدل من ضمانه بغير جنسه، وهو الدراهم والدنانير مع اعتبار القيمة؛ فإن القيمة معتبرة في الموضعين، والجنس مختص بأحدهما، ولا ريب أن الأغراض متعلقة بالجنس، وإلا فمن له غرض في كتاب أو فرس أو بستان ما يصنع بالدراهم؟ فإن قيل: يشتري بها مثله، قيل: الظالم الذي فوته ماله هو أحق بأن يضمن له مثل ما فوته إياه، أو نظير ما أفسده من ماله. / فأجاب: الحمد لله أما من وجد ماله بعينه، فهو أحق به، وأما الذين عدمت أموالهم فيتقاسمون ما غرمه الحرامية لهم على قدر أموالهم، لا على عدد الرؤوس. والله أعلم.
فأجاب: إذا كان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضـارب شيء. وقد روي ابن عمر: أن لصًا دخل داره، فقام / اليه بالسيف، فلولا أنهم ردوه عنـه لضربه بالسيف. وفي الصحيحين: (من قتل دون ماله فهو شهيد).
فأجاب: أما ما قدمه للسلطان من المغصوب، وأعطاه ما أعطاه، فليتصدق بقدر ذلك المغصوب عن صاحبه، إن لم يعرفه، وكذلك ما أهداه للأمير وعوضه عنه.
فأجاب: أما الأراضي السلطانية، والطواحين السلطانية التي لم يعلم أنها مغصوبة، فيجوز للإنسان أن يعمل فيها مزارعة، بنصيب من الزرع. ويجوز أن يستأجرها، ويجوز أن يعمل فيها بأجرته /مع الضمان. وأما إذا علم أنها مغصوبة، ولم يعرف لها مالك معين، فهذه فيها نزاع. والأظهر أنه يجوز العمل فيها إذا كان العامل لا يأخذ إلا أجرة عمله، فإنه حينئذ لا يكون قد ظلم أحدًا شيئًا، فالعمل فيها خير من تعطيلها على كل تقدير. وهذا إن أمكن أن ترد إلى أصحابها، وإلا صرفت في مصالح المسلمين، والمجهول كالمعدوم. وأما إذا عرف أن للأرض مالكًا معينًا، وقد أخذت منه بغير حق، فلا يعمل فيها بغير إذنه، أو إذن وليه، أو وكيله. والله أعلم.
فأجاب: بل هذه الكلف التي تطلب من الناس بحق، أو بغير حق، يجب العدل فيها، ويحرم أن يوفر فيها بعض الناس، ويجعل قسطه على غيره، ومن قام فيها بنية العدل، وتخفيف الظلم مهما أمكن، وإعانة الضعيف لئلا يتكرر الظلم عليه بلا نية إعانة الظالم، كان كالمجاهد في سبيل الله، إذا تحري العدل، وابتغي وجه الله. /وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحراني ـ قدس الله روحه ونور ضريحه بمنه وكرمه: الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا.
في [المظالم المشتركة] التي تطلب من الشركاء، مثل المشتركين في قرية، أو مدينة، إذا طلب منهم شيء يؤخذ على أموالهم أو رؤوسهم: مثل الكلف السلطانية التي توضع عليهم كلهم؛ إما على عدد رؤوسهم، أو عدد دوابهم، أو عدد أشجارهم، أو على قدر أموالهم، كما يؤخذ منهم أكثر من الزكوات الواجبة بالشرع، أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم الكلف التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية،/ كما يوضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة، وغير ذلك، يؤخذ منهم إذا باعوا. ويؤخذ ذلك تارة من البائعين. وتارة من المشترين، وإن كان قد قيل: إن بعض ذلك وضع بتأويل وجوب الجهاد عليهم بأموالهم، واحتياج الجهاد إلى تلك الأموال، كما ذكره صاحب [غياث الأمم] وغيره، مع ما دخل في ذلك من الظلم الذي لا مساغ له عند العلماء. ومثل الجبايات التي يجبيها بعض الملوك من أهل بلده، كل مدة. ويقول: إنها مساعدة له على ما يريد، ومثل ما يطلبه الولاة أحيانًا من غير أن يكون راتبًا؛ إما لكونهم جيشًا قادمين يجمعون ما يجمعونه لجيشهم، وإما لكونهم يجمعون لبعض العوارض. كقدوم السلطان، أو حدوث ولد له، ونحو ذلك، وإما أن ترمي عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها، وتسمي [الحطائط] . ومثل القافلة الذين يسيرون حجاجًا، أو تجارًا، أو غير ذلك. فيطلب منهم على عدد رؤوسهم أو دوابهم أو قدر أموالهم، أو يطلب مطلقًا منهم كلهم، سواء كان الطالب ذا السلطان في بعض المدائن والقري، كالذين يقعدون على الجسور وأبواب المدائن، فيأخذون ما يأخذونه. أو كان الآخذون قطاع طريق؛ كالأعراب، والأكراد والترك الذين يأخذون مكوسًا من أبناء السبيل، ولا يمكنونهم من العبور حتي يعطوهم ما يطلبون. فهؤلاء المكرهون على أداء هذه الأموال عليهم لزوم العدل فيما /يطلب منهم، وليس لبعضهم أن يظلم بعضًا فيما يطلب منهم، بل عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بغير حق، كما عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق، فإن هذه الكلف التي أخذت منهم بسبب نفوسهم، وأموالهم، هي بمنزلة غيرها بالنسبة اليهم. وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الأخذ، فقد يكون أخذًا بحق، وقد يكون أخذًا بباطل. وأما المطالبون بها فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم، فليس لبعضهم أن يظلم بعضًا في ذلك،بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح شيء منه بحال، حتي إن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يعدلوا على الكفار في قوله تعالى: وحينئذ، فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره، بل إما أن يؤدي قسطه فيكون عادلًا، وإما أن يؤدي زائدًا على قسطه، فيعين شركاءه بما أخذ منهم فيكون محسنًا. وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء، فيتضاعف الظلم عليهم؛فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة، وامتنع بجاه/ أو رشوة أو غيرهما، كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذي يخصه، وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره؛ فإن هذا جائز؛ مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه فلا يؤخذ ذلك منه، ولا من غيره. وهذا كالوظائف السلطانية التي توضع على القري مثل أن يوضع عليهم عشرة آلاف درهم، فيطلب من له جاه بإمرة أو مشيخة أو رشوة أو غير ذلك ألا يؤخذ منه شيء، وهم لابد لهم من أخذ جميع المال، وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من سائر الشركاء، فيمتنع من أداء ما ينوبه، ويؤخذ من سائر الشركاء، فإن هذا ظلم منه لشركائه؛ لأن هذا لم يدفع الظلم عن نفسه إلا بظلم شركائه، وهذا لا يجوز. وليس له أن يقول: أنا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ منهم الحصتين؛ لأنه يقال: أولًا: هذا الطالب قد يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذلك المال، فلا يسقط عن بعضهم نصيبه إلا أخذه من نصيب ذلك الآخر، فيكون أمره بألا يأخذ أمرًا بالظلم. الثاني: أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى، فعليه أن يعدل بينهم فيما يطلبه منهم، وإن كان أصل الطلب ظلمًا فعليه أن يعدل في هذا الظلم، ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقي ظلمًا مكررًا، فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين، كان قد ظلم ظلمًا مكررًا، بخلاف ما إذا /أخذ من كل قسطه؛ ولأن النفوس ترضي بالعدل بينها في الحرمان، وفيما يؤخذ منها ظلمًا، ولا ترضي بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء. ولهذا جاءت الشريعة بأن المريض له أن يوصي بثلث ماله لغير وارث، ولا يخص الوارث بزيادة على حقه من ذلك الثلث، وإن كان له أن يعطيه كله للأجنبي. وكذلك في عطية الأولاد: هو مأمور أن يسوي بينهم في العطاء، أو الحرمان، ولا يخص بعضهم بالإعطاء من غير سبب يوجب ذلك؛ لحديث النعمان بن بشير وغيره. الثالث: أنه إذا طلب من القاهر ألا يأخذ منه، وهو يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقد أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره، وليس للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره، وإن كان هو لم يأمره بالظلم، كمن يولي شخصًا، ويأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه، وكذلك من وكل وكيلًا، وأمره ألا يظلم، وهو يعلم أنه يظلم، وكذلك من طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال، وهو يعلم أنه لا يوفيه إلا مما ظلمه من الناس. وكذلك هذا طلب منه أن يعفيه من الظلم، وهو يعلم أنه لا يعفيه إلا بظلم غيره، فليس له أن يطلب منه ذلك. الرابع: أن هذا يفضي إلى أن الضعفاء الذين لا ناصر لهم يؤخذ منهم جميع ذلك المال، والأقوياء لا يؤخذ منهم شيء من وظائف الأملاك، مع أن أملاكهم أكثر، وهذا يستلزم من الفساد والشر /ما لا يعلمه إلا الله تعالى، كما هو الواقع. الخامس: أن المسلمين إذا احتاجوا إلى مال يجمعونه لدفع عدوهم وجب على القادرين الاشتراك في ذلك، وإن كان الكفار يأخذونه بغير حق، فلأن يشتركوا فيما يأخذه الظلمة من المسلمين أولى وأحرى.
وعلى هذا، فإذا تغيب بعض الشركاء، أو امتنع من الأداء فلم يؤخذ منه وأخذ من غيره حصته، كان عليه أن يؤدي قدر نصيبه إلى من أدي عنه في أظهر قولي العلماء، كما يؤدي ما عليه من الحقوق الواجبة ويلزم بذلك ويعاقب على أدائه، كما يعاقب على أداء سائر الحقوق الواجبة عليه؛ كالعامل في الزكاة إذا طلب من أحد الشريكين أكثر من الواجب وأخذه بتأويل، فللمأخوذ منه أن يرجع إلى الآخر بقسطه. وإن كان بغير تأويل فعلى قولين: أظهرهما أن له أن يرجع أيضًا؛ كناظر الوقف، وولي اليتيم، والمضارب، والشريك، والوكيل، وسائر مـن تصرف لغيره بولايـة أو وكالـة إذا طلب منه مـا ينوب ذلك المـال مـن الكلف، مثل ما إذا أخذت منه الكلف السلطانية عن الأملاك، أو أخذ من التجار في الطرق والقري ما ينوب الأموال التي معهم؛ فإن لهم أن يؤدوا ذلك من نفس المال، بل يجب عليهـم إذا خافـوا إن لـم يؤدوه أن يؤخذ أكثر منه. وإذا قـدر /أن المـال صـار غائبًا، فاقترضوا عليه وأدوا عنه أو أدوا من مال لهم عن مال الموكل، والمولي عليه، كان لهم الرجوع بقدر ذلك من ماله. وعلى هذا عمل المسلمين في جميع الأعصار والأمصار. ومن لم يقل بذلك فإنه يلزم قوله من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد؛ فإن الكلف التي تؤخذ من الأموال على وجه الظلم كثيرة جدًا. فلو كان ما يؤديه المؤتمن على مال غيره عنه من تلك الكلف التي تؤخذ منه قهرًا بغير حق تحسب عليه، إذا لم يؤدها من غير مال المؤتمن لزم من ذلك ذهاب كثير من أموال الأمناء، ولزم ألا يدخل الأمناء في مثل ذلك لئلا تذهب أموالهم. وحينئذ، يدخل في ذلك الخونة الفجار الذين لا يتقون الله، بل يأخذون من الأموال ما قدروا عليه، ويدعون نقص المقبوض المستخرج أو زيادة المصروف المؤدي، كما هو المعروف من حال كثير من المؤتمنين على الأموال السلطانية، لكن هؤلاء قد يدخل في بعض ما يفعلونه تأويل، بخلاف الوكيل والشريك والمضارب وولي اليتيم وناظر الوقف، ونحوهم. وإذا كان كذلك، فالمؤتمن على المال المشترك بينه وبين شريكه إذا كان يعتد له بما أخذ منه، من هذه الكلف، فما قبضه عمال الزكاة باسم الزكاة أولي أن يعتد له به، وإن قبضوا فوق الواجب بلا تأويل،لا سيما وهذا /هو الواقع كثيرا أو غالبًا في هذه الأزمان،فإن عمال الزكاة يأخذون من زكوات الماشية أكثر من الواجب بكثير، وكذلك من زكوات التجارات، ويأخذون من كل من كان المال بيده، سواء كان مالكًا أو وكيلًا أو شريكًا أو مضاربًا، أو غيرهم. فلو لم يعتد للأمناء بما أخذ منهم ظلمًا لزم من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. وأيضًا، فذلك الإعطاء قد يكون واجبًا للمصلحة؛ فإنه لو لم يؤده لأخذ الظلمة أكثر منه، ومعلوم أن المؤتمن على مال غيره إذا لم يمكنه دفع الظلم الكثير إلا بأداء بعض المطلوب وجب ذلك عليه؛ فإن حفظ المال واجب. فإذا لم يمكن إلا بذلك وجب، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأيضًا، فالمنازع يسلم أنهم لو أكرهوا المؤتمن على أخذ غير المال لم يكن ضامنًا، وأن العامل الظالم إذا أخذ من المال المشترك أكثر من الواجب لم يكن ضامنًا، وإنما وقعت لهم الشبهة إذا أكره المؤدي على الأداء عنه، كيف كان، فأدي عنه مما اقترض عليه، أو من مال إنسان ليرجع عليه. فيقال لهم: أي فرق بين أن يكرهه على الأداء عنه من مال نفسه،أو من مال الغائب. ومعلوم أن إلزامه بالأداء عن الغائب والممتنع أعظم ضررًا عليه من الأداء من عين مال الغائب والممتنع؛ فإن أداء ما يطلب من الغائب أهون عليه من أداء ذلك من مال نفسه، فإذا عذر فيما / يؤديه من مال الغائب لكونه مكرهًا على الأداء، فلأن يعذر إذا أكره على الأداء عنه أولى وأحرى. فإن قال المنازع: لأن المؤدي هناك عين مال المكره المؤدي فهو المظلوم. فيقال لهم: بل كلاهما مظلوم؛ هذا مظلوم بالأداء عن ذاك، وذاك مظلوم بطلب ماله. فكيف يحمل كله على المؤدي، والمقصود بالقصد الأول هو طلب المال من المؤدي عنه؟ وإنما الأعمال بالنيات، والطالب الظالم إنما قصده أخذ مال ذلك لا مال هذا، وإنما طلب من هذا الأداء عن ذاك. وأيضًا، فهذا المكره على الأداء عن الغائب مظلوم محض، بسبب نفسه وماله، وذاك مظلوم بسبب ماله فكيف يجعل مال هذا وقاية لمال ذاك لظلم هذا الظالم الذي أكرهه، أو يكون صاحب المال القليل قد أخذ منه أضعاف ما يخصه، وصاحب المال الكثير لم يؤخذ منه شيء؟ وغاية هذا أن يشبه بغصب المشاع؛ فإن الغاصب إذا قبض من العين المشتركة نصيب أحد الشريكين كان ذلك من مال ذلك الشريك في أظهر قولي العلماء، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لأنه إنما قصد أخذ مال أحد الشريكين. /ولو أقر أحد الابنين بأخ ثالث وكذبه أخوه، لزم المقر أن يدفع إلى المقر به ما فضل عن حقه، وهو السدس في مذهب مالك وأحمد بن حنبل. وكذلك ظاهر مذهب الشافعي، وهو قول جمهور السلف. جعلوا ما غصبه الأخ المنكر من مال المقر به خاصة؛ لأنه لم يقصد أن يأخذ شيئًا من حق المقر. ولكن أبو حنيفة قال في غصب المشاع: إن ما قبضه الغاصب يكون من الشريكين جميعًا، باعتبار صورة القبض من غير اعتبار نية. وكذلك قال في الأخ المنكر: إن ما غصبه يكون منهما جميعًا فيدفع المقر إلى المقر به نصف ما في يده وهو الربع، ويكون النصف الذي غصبه المنكر منهما جميعًا. وهذا قول في مذهب أحمد والشافعي. وقول الجمهور هو الصواب لأجل النية. وكذلك هنا إنما قبض الظالم عن ذلك المطلوب، لم يقصد أخذ مال الدافع. فإن قيل: فلو غلط الظالم،مثل أن يقصد القطاع أخذ مال شخص فيأخذون غيره، ظنًا أنه الأول. فهل يضمن الأول مال هذا الذي ظنوه الأول؟ قيل: باب الغلط فيه تفصيل ليس هذا موضعه، ولكن الفرق بينهما معلوم، وليس هذا مثل هذا؛ فإن الظالم الغالط الذي أخذ مال هذا لم يأخذه عن غيره، ولكنه ظنه مال زيد فظهر أنه مال عمرو، فقد قصد أن يأخذ مال زيد،فأخذ مال عمرو،كمن طلب قتل معصوم فقتـل/معصومًا آخر ظنًـا منه أنه الأول. وهذا بخلاف من قصد مال زيد بعينه، وأن يأخذ من الشركاء ما يقسم بينهم بالعدل، وأخذ من بعضهم عن بعض؛ فإن هذا لم يغلط، بل فعل ما أراده قصد أخذ مال شخص، وطلب المال من المستولي على ماله من شريك أو وكيل، ونحو ذلك، ليؤديه عنه. أو طلبوا من أحد الشركاء مالًا عن الأمور المشتركة تؤخذ من الشركاء كلهم، لم يغلطوا في ظنهم. فإذا كانوا إنما قصدوا الأخذ من واحد، بل قصدوا العدل بينه وبين شركائه، ولكن إنما قدروا على الأخذ من شريكه، فكيف يظلم هذا الشريك مرتين؟ ونظير هذا أن يحتاج ولي بيت المال إلى إعطاء ظالم لدفع شره عن المسلمين؛ كإعطاء المؤلفة قلوبهم لدفع شرهم، أو إعطاء الكفار إذا احتاج ـ والعياذ بالله ـ إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء، واستسلف من الناس أموالًا أداها، فهل يقول عاقل: إن تلك الأموال تذهب من ضمان من أخذت منه، ولا يرجع على بيت المال بشيء؛ لأن المقبوض كان عين أموالهم، لا عين أموال بيت المال؟! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعطون ما يعطونه؛ تارة من عين المال. وتارة مما يستسلفونه. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستسلف على الصدقة، وعلى الفيء، فيصرفه في المصارف الشرعية؛ من إعطاء المؤلفة /قلوبهم، وغيرهم. وكان في الآخذين من لا يحل له الأخذ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارًا). قالوا: يا رسول الله، فلم تعطيهم؟ قال: (يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البخل). ولا يقول عاقل: إن ذلك المال يذهب من عين من اقترض منه، بل هو بمنزلة ما إذا كان عين مال الصدقة والفيء؛ لأن المعطي جاز له الإعطاء، وإن لم يجز للآخذ الأخذ. هذا وهو يعطيه باختياره، فكيف بمن أكره على الإعطاء وجاز له الإعطاء، أو وجب عليه؟ ولا يقال: ولي الأمر هنا اقترض أموال الناس منهم؛ لأنه يقال: إنما اقترضها ليدفعها إلى ذلك الظالم الذي طلب أخذ أموال المسلمين، فأدي عنهم ما اقترضه ليدفع به عنهم الضرر، وعليه أن يوفي ذلك من أموالهم المشتركة مال الصدقات والفيء ولا يقال: لا يحل له صرف أموالهم؛ فإن الذي أخذه ذلك الظالم كان مال بعضهم، بل إعطاء هذا القليل لحفظ نفوسهم وأموالهم واجب. وإذا كان الإعطاء واجبًا لدفع ضرر هو ضرر أعظم منه، فمذهب مالك وأحمد بن حنبل المشهور عنه وغيرهما: أن كل من أدي عن غيره واجبًا فله أن يرجع به عليه إذا لم يكن متبرعًا بذلك، وإن أداه بغير إذنه؛ مثل من قضي دين غيره بغير إذنه. سواء كان قد ضمنه بغير إذنه، وأداه بغير إذنه، أو أداه عنه بلا ضمان. /وكذلك من أفتك أسيرًا من الأسر بغير إذنه يرجع عليه بما أفتكه به. وكذلك من أدي عن غيره نفقة واجبة عليه؛ مثل أن ينفق على ابنه أو زوجته أو بهائمه، لا سيما إذا كان للمنفق فيها حق؛ مثل أن يكون مرتهنًا أو مستأجرًا. أو كان مؤتمنًا عليها؛ مثل المودع، ومثل راد العبد الآبق، ومثل إنفاق أحد الشريكين على البهائم المشتركة. وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى: والمفرق يقول: الأم أحق برضاع ابنها من غيرها، حتي لو طلبت الإرضاع بالأجر لقدمت على المتبرعة. قيل: فكذلك من له حق في بهائم الغير؛ كالمستأجر، والمرتهن، يستحق مطالبة المالك بالنفقة على بهائمه، فذلك أحق من الأم بالإرضاع. وأيضًا، فلا يلزم من كونه يستحق ذلك بعقد المعاوضة أن يستحقه بدون عقد، إلا أن يكون الإرضـاع واجبًا على الأب، وإذا كـان إنمـا /أداه لكونـه واجبًا عليه، فهكذا جميع الواجبات عليه أن يؤديها إلى من أدي عنه وأحسن اليه بالأداء عنه. وهذا إذا كان المعطي مختارًا، فكيف إذا أكره على أداء ما يجب عليه؟ فإن الظالم القادر إذا لم يعطه المطلوب الذي طلبه منه ضره ضررًا عظيمًا؛ إما بعقوبة بدنية، وإما بأخذ أكثر منه. وحينئذ يجب عليه دفع ما يندفع به أعظم الضررين بالتزام أدناهما، فلو أدي الغير عنه بغير إكراه لكان له أن يرجع عليه بما أداه عنه، فكيف إذا أكره على الأداء عنه؟! وأيضًا، فإذا كان الطلب من الشركاء كلهم فقد تقدم أنه ليس لبعضهم أن يمتنع مما عليه امتناعًا يستلزم تكثير الظلم على غيره. وحينئذ فيكون الأداء واجبًا على جميع الشركاء؛ كل يؤدي قسطه الذي ينوبه إذا قسم المطلوب بينهم بالعدل. ومن أدي عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع به عليه، وكان محسنًا اليه في الأداء عنه، ومباشرة الظالمين دونه؛ فإن المباشر يحصل له ضرر في نفسه وماله، والغالب إنما يحصل له الضرر في ماله فقط، فإذا أدي عنه لئلا يحضر كان محسنا اليه في ذلك، فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه، كما يوفي المقـرض المحسن؛ فإن جزاء القـرض الوفـاء والحمـد، ومـن غـاب ولم يؤد حتي أدي عنه الحاضرون لزمه أن يعطيهم قدر ما أدوه عنه، ويلزم بذلك، ويعاقب إن امتنع عن أدائه، ويطيب لمن أدي عنه أن يأخذ نظير ذلك من ماله، كما يأخذ /المقرض من المقترض نظير ما أقرضه. ومن قبض ذلك من ذلك المؤدي عنه، وأداه إلى هذا المؤدي جاز له أخذه، سواء كان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره. ولهذا له أن يدعي بما أداه عنه عند حكام العدل، وعليهم أن يحكموا على هذا بأن يعطيه ما أداه عنه، كما يحكم عليه بأداء بدل القرض ولا شبهة على الآخذ في أخذ بدل ماله. ولا يقال: إنه أخذ أموال الناس؛ فإنه إنما أخذ منهم ما أداه عنهم، وبدل ما أقرضهم إياه من مال، وبدل ما وجب عليهم أداؤه، فإنه ليس لأحد الشركاء أن يمتنع عن أداء ما ينوبه إذا علم أن ذلك يؤخذ من سائر الشركاء، كما تقدم. وإذا لم يكن له هذا الامتناع كان الأداء واجبًا عليه، فمن أدي عنه ناويًا للرجوع فله الرجوع إذا أداه طوعًا؛ لإحسانه اليه بالأداء عنه. فكيف إذا أكره على الأداء عنه؟! ولو لم يكن الأداء واجبًا عليه، بل قد أكره ذلك الرجل على الأداء عنه رجع عليه، فإنه بسببه أكره ذاك، وأخذ ماله.وهذا كمن صودر على مال فأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوا عنه، ويرجعوا عليه، فلهم الرجوع؛ فإن أموالهم إنما أخذت بسببه، وبسبب الدفع عنه. فإن الآخذ منه إما أن يأخذ لاعتقاده أنه ظالم، كما يصادر ولاة الأمور بعض نوابهم، ويقولون:إنهم أخذوا من الأموال أكثر مما /صودروا عليه؛وإما أن يكون صاحب مال كثير، فيطلب منه الطالب ما يقول: أنه ينوب ماله. فأقاربه وجيرانه وأصدقاؤه وغيرهم ممن أخذ ماله بسبب مال هذا أو بسبب أعماله إنما ظلموا لأجله، وأخذت أموالهم لأجل ماله وصيانة لماله، والطالب إنما مقصوده ماله لا أموال أولئك، وشبهته وإرادته إنما هي متعلقة بماله دون أموالهم. فكيف تذهب أموالهم هدرًا من غير سبب منهم، ويبقي مال هذا محفوظًا، وهو الذي طولبوا لأجله؟! ولو لم يستحق هؤلاء المؤدون عن غيرهم الرجوع لحصل فساد كثير في النفوس والأموال؛ فإن النفوس والأموال قد يعتريها من الضرر والفساد ما لا يندفع إلا بأداء مال عنهم، فلو علم المؤدون أنهم لا يستحقون الرجوع بما أدوه إلا إذا أذن ذلك الشخص لم يؤدوا، وهو قد لا يأذن، إما لتغيبه، أو لحبسه، أو غير ذلك، وإما لظلمه نفسه وتماديه على ما يضر نفسه وماله سفها منه، وظلمًا حرمه الشارع عليه. ومعلوم أن الناس تحت أمر الله ورسوله، فليس لأحد أن يضر نفسه وماله ضررًا نهاه الله عنه، ومن دفع ذلك الضرر العظيم عنه بما هو أخف منه، فقد أحسن اليه، وفي فطر الناس جميعهم أن من لم يقابل الإحسان بالإحسان فهو ظالم معتد، وما عده المسلمون ظلمًا فهو ظلم.كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند /الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح. وأصل هذا: اعتبار المقاصد والنيات في التصرفات، وهذا الأصل قد قرر وبسط في كتاب: [بيان الدليل على بطلان التحليل] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ في ابن اللتبية العامل الذي قبل الهدايا لما استعمله على الصدقات، فأهدي اليه هدايا فلما رجع حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم على ما أخذ وأعطي، وهو الذي يسميه أهل الديوان الاستيفاء، كما يحاسب الإنسان وكيله وشريكه على مقبوضه ومصروفه، وهو الذي يسميه أهل الديوان المستخرج والمصروف، فقال ابن اللتبية: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ: (ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدي اليه؟ أم لا؟ والذي نفسي بيده، ما من رجل نستعمله على العمل فيغل منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغَاء، أو بقرة لها خُوَار، أو شاة تَيْعَر). ثم رفع يديه إلى السماء ثم قال: (ألا هل بلغت؟) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحديث متفق على صحته. فلما كان المعطون المهدون إنما أعطوه وأهدوا اليه لأجل ولايته، جعل ذلك من جملة المال المستحق لأهل الصدقات؛ لأنه بسبب /أموالهم قبض، ولم يخص به العامل الذي قبضه، فكذلك ما قبض بسبب أموال بعض الناس فعنها يحسب، وهو من توابعها، فكما أنه أعطي لأجلها، فهو مغنم ونماء لها، لا لمن أخذه، فما أخذ لأجلها فهو مغرم ونقص منها لا على من أعطاه. وكذلك من خلص مال غيره من التلف بما أداه عنه يرجع به عليه؛ مثل من خلص مالًا من قطاع أو عسكر ظالم أو متول ظالم، ولم يخلصه إلا بما أدي عنه، فإنه يرجع بذلك، وهو محسن اليه بذلك، وإن لم يكن مؤتمنًا على ذلك المال، ولا مكرهًا على الأداء عنه، فإنه محسن اليه بذلك، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف أداها عنه كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه في تخليص المال إحسانًا اليه لم يجزه به. هذا أصوب قولي العلماء. ومن جعله في مثل هذا متبرعًا ولم يعطه شيئًا، فقد قال منكرًا من القول وزورًا، وقد قابل الإحسان بالإساءة. ومن قال: هذا هو الشرع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله غير الحق؛ لكنه قول بعض العلماء، وقد خالفهم آخرون. ونسبة مثل هذه الأقوال إلى الشرع توجب سوء ظن كثير من الناس في الشرع وفرارهم منه، والقدح في أصحابه. فإن من العلماء من قال قولًا برأيه، /وخالفه فيه آخرون، وليس معه شرع منزل من عند الله، بل الأدلة الشرعية قد تدل على نقيض قوله، وقد يتفق أن من يحكم بذلك يزيد ذلك ظلمًا بجهله وظلمه، ويتفق أن كل أهل ظلم وشر يزيدون الشر شرًا، وينسبون هذا الظلم كله إلى شرع من نزهه الله عن الظلم وبعثه بالعدل والحكمة والرحمة، وجعل العدل المحض الذي لا ظلم فيه هو شرعه. ولهذا كان العدل وشرعه متلازمين. قال الله تعالى: فما أنزل عليه والقسط متلازمان، فليس فيما أنزل الله عليه ظلم قط، بل قد قال تعالى: / فأجاب: الحمد لله، نعم إذا كان مجتهدًا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره، كما قد ذكر؛ فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه. وقد يكون ذلك عليه واجبًا إذا لم يقم به غيره قادرًا عليه. فنشر العدل ـ بحسب الإمكان ـ ورفع الظلم ـ بحسب الإمكان ـ فرض على الكفاية، يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب ـ والحالة هذه ـ بما يعجز عنه من رفع الظلم. وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبـون أموالًا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم يدفع اليهم أعطوا تلك الإقطاعات، والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده، ولا يخففه، كان أخذ تلك الوظائف ودفعها اليهم خيرًا للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره،ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان/من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره، ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدًا في العدل والإحسان بحسب الإمكان. وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم؛ فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك مثل ما يعطي هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما يباع ويشتري؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلابد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم. والذي ينهي عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق، فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة: لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئًا من الأموال /التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذي ينهي عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير، وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلًا أن تأتي به الشرائع، فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان. فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من نسبه مستقرًا على ولايته وإقطاعه ظلمًا وشرًا كثيرًا عن المسلمين أعظم من ذلك، ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولي من يقره ولا ينقص منه شيئًا، هو مثاب على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة. وهذا بمنزلة وصى اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولي من يجور ويريد الظلم، فولايته جائزة، ولا إثم عليه فيما يدفعه، بل قد تجب عليه هذه الولاية. وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في/ الجهاد، فإذا قيل له: لا يحل لك أن تأخذ شيئًا من هذا، بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم، ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئًا جاهلًا بحقائق الدين، بل بقاء الجند من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعًا وأكثر ظلمًا. والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان، يجزيه الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك -كان ترك ذلك يوجب شرًا أعظم منه. والله أعلم.
|